الابستومولوجيا

نقد العلم ... والنمو الحضاري
أين نحن من ذلك؟
أخذت الدول المتقدمة على نفسها منذ أن جعلت العلم أحد الأسس المهمة في مسيرتها الحضارية التي تكللت بالنجاح وسيادة العالم وقيادته ؛ انتهاج طريق النقد الذاتي ، والوقوف بإجلال تجاه النقد الغيري ؛ لتستفيد من ذلك النقد في إصلاح ما اعوج من طريقها ، وتصحيح ما انحرف وزل في علومها ومعارفها ، وتجديد الأفكار وصياغتها من خلال منظومة متكاملة لا تحدها الحدود السياسية أو القومية أو العرقية ، ولذلك كان اهتمامها بالعلماء والنقاد والباحثين من كل أنحاء العالم بغض النظر عن بلدانهم أو معتقداتهم أو ألوانهم أو أشكالهم ما داموا يخدمون الهدف الذي تسعى هذه الدول لتحقيقه.
بينما نرى هجرة العلماء والمفكرين والمبدعين من بلداننا العربية الإسلامية ؛ حيث لا يجدون مكانا يقعدون فيه ولا بيئة يبدعون من خلالها ، نجد دولا من أمثال أمريكا ودول أوروبا تستقبلها بالأحضان وتهيأ لها كل ما تحتاجه في سبيل العلم والمعرفة ؛ مما جعل تلك الدول حقا في مقدمة الدول وعلى رأس سلم الحضارة والتقدم.
وفي عالم اليوم نجد أن الغرب يهتم بتطوير سبل العلم وتحسين أداء العلماء والباحثين ويثير من القضايا العلمية المختلفة ما يجعل ساحة العلم لديهم ساحة مضطرمة ومصقولة ومتجددة ، كعين من الماء الذي ينبع بسلسبيل من النظريات والقواعد والأسس التي لا يتوقف سيل جريانها عن الانبعاث ولا يجف عن العطاء في سقي شجرة العلم بكل جديد ومفيد.
ومما نجده عند تلك الدول اهتمامها بعملية النقد وتقييم الذات والوقوف عند السلبيات والتعرف على الأخطاء وصقل الإيجابيات وتحسينها بدافع التجويد في العمل والتقدم في الأداء ، وما يشهد على ذلك ظهور علم الابستومولوجيا ، وهذا المصطلح ابتكره الفيلسوف جميس ف. فيريه في كتابه مجموعة مبادئ الميتافيزيقا عام (1854م) ، وظلت هذه الكلمة بين طيات الكتب حتى أُعْلِن عن ولادة استخدامها في عام (1906م) كمصطلح يدل على (نظرية المعرفة) بشكل عام ، قبل أن تتطور إلى ما عليه اليوم من معنى (نظرية العلم) أو (نقد العلم) ، هذه النظرية تُعنى في أساس نشأتها بنقد المناهج المختلفة للعلوم المختلفة وأسسها وأدواتها بغية التعرف على نقاط الضعف ومحاولة تحسين الأداء فيها.
إن الاهتمام بالابستومولوجيا هو محاولة لتأسيس علم منهجي تقوم عليه عملية النقد ؛ لها أدواتها الخاصة وطرائقها المتفق عليها ؛ حتى تتم هذه العملية وفق ضوابط يتفق عليها جميع الباحثين ؛ من أجل البعد عن الذاتية التي في كثير من الأحيان قد تتجه بالبحث إلى الشمولية أو الآراء غير العلمية أو الميل إلى الأحكام المسبقة ومحاولة تطبيع البحث بطابع التجني أو لَيِّ الأمور لتتوافق وقناعة الباحث المسبقة ، ويدل في المقابل على اهتمام الغرب بعملية تطوير الذات والبعد عن التخبط والعشوائية وتمجيد النفس وعدم الرضا بالنقد الذي يتساوق معه الغرور وعدم الاعتراف بالخطأ ؛ مما يؤدي في النهاية إلى الفشل والتخلف في مجالات كثيرة.
وعندما نأتي إلى تلمس واقع دولنا العربية الذي حق للعالم المتقدم أن يطلق عليها دول العالم الثالث ، أو الدول النامية أيا كان المصطلح ؛ فهو يدل عندهم على تخلف هذه الدول وتمركزها حول الذيل للمذنب الحضاري العالمي الذي يسير بسرعة الضوء ، بينما يسير في مجتمعاتنا بسرعة السلحفاة.
إننا في العالم العربي لا نرضى بعملية النقد مطلقا ؛ لأن الذي نفعله دائما يحمل هالة من العصمة عن الخطأ أو النقص أو الخلل ، وفي أحيان كثيرة تأخذ الأمور هالتها من الأشخاص التي تصدر عنهم ؛ فالمساس بها مساس بتلك الشخصيات ؛ لأن العلم في واقعنا العربي المعاش -وهو واقع أليم- يرتبط بالمؤسسات والأفراد أكثر من ارتباطه بالمناهج والأسس التي يقوم عليها.
ولذلك نجد أن الابستومولوجيا لم يستقر مفهومها بعد قرن من ظهورها في عالمنا العربي-بغض النظر عن تطبيقها- فمازال السؤال عن ماهية الابستومولوجيا قائما في دراساتنا العربية ، بل ربما هناك من الباحثين من لم يسمع بالكلمة بتاتا فكيف بعامة الناس في مجتمعاتنا؟ هناك محاولات من بعض الباحثين المغاربة في هذا الشأن لتقريب المصطلح ورسم حدوده ، لعلنا نتنبه إلى أهميته في حياتنا ومحاولة استخدامه في واقعنا العملي والعلمي والإفادة منه في مسيرة حياتنا المعاصرة لتحقيق أكبر قدر من النجاح في خططنا المستقبلية ؛ فأتت محاولة محمد عابد الجابري في كتابه "مدخل إلى فلسفة العلوم" ومحمد وقيدي في كتابه "ما هي الابستومولوجيا؟" وعبد السلام بنعبد العالي وسالم يفوت في كتابهما "درس الابستومولوجيا" ، هذه المحاولات لتقريب مصطلح الابستومولوجيا وتحديد مهامه والتي تؤكد على أن الابستومولوجيا ليست نظرية عامة في المعرفة ، وإنما هي تفكير نقدي في المعرفة العلمية بشكل خاص ؛ كما هو الحال عليه كمصلح عند الغرب.
هذه المحاولات التأصيلية لمفهوم الابستومولوجيا في العالم العربي لا يعد "إنتاجا لمعرفة جديدة ؛ "فكل الكتابات لا تعدوا أن تكون مداخل إلى العلم لا تأليفا فيه ومساهمة في تطويره" ، وإذا ما نظرنا إلى خصوصية الثقافة العربية الإسلامية كان لا بد أن يكون لنا فلسفة نقدية فكرية خاصة تتناسب وقيمنا وفكرنا وواقعنا وعلومنا ومناهجنا ، يساعد ذلك الفكر النقدي في تقييم الواقع العربي بشكل موضوعي ونزيه ، نحاول جميعا أن نطبِّع من خلاله أنفسنا على عملية التقويم ونعدها لعملية التغيير ، والنظر إلى الأمور من ناحية المصلحة العامة ؛ مصلحة الثقافة العربية والحضارة العربية والعلوم العربية ؛ ليعود لها مكانها المنسي ، ولكن أين ذلك العلم؟
إنني عندما أعيد بعض الصور القيمية التي عاشها الرعيل الأول من سلف هذه الأمة والتي سرعان ما تناسينا تأسيسها في مجتمعاتنا واستبدلناها بقيم التسلط والرفض والتمجيد للأفراد على حساب الجماعات ؛ هذا الانقلاب على تلك القيم هو الذي أورثنا التخلف ، والأخذ بتلك القيم هو الذي أورث غيرنا التقدم.
ولك من ذلك بعض الأمثلة : عتاب القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات مرة في الأعمى عبد الله بن أم مكتوم ، ومرة لما سألته قريش عن مسائل من الغيب فرد أنه سيحضر الجواب غدا ونسي أن ينسب ذلك لله " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ، وأخرى في قضية أسرى بدر ، ورابعة في صلاته على المنافقين ، و في بعض تلك الأمور أتت المعارضة من بعض الصحابة كعمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ فينزل القرآن بتأييد قول المعارضة ؛ وتلك المرأة التي وقفت لعمر وهو على المنبر في حديثه عن مهر المرأة والتقليل من شأنه ؛ فما كان لعمر أن يقول ، أصابت امرأة وأخطأ عمر ، وتلك المرأة التي وقفت ترشد عمر وتوجهه ؛ فلما أراد أصحابه أن يسكتوها قال : دعوها فقد سمع الله قولها من فوق سبع سماوات فكيف بعمر؟ ، وقوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" ، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي سلمان في حفر الخندق وغيرها ؛ ألا يدل على أن مبدأ المشاورة والمعارضة الهادفة والنقد البناء مقرر في حضارتنا ؛ فلماذا استبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو أعلى؟! ولذلك فإن العرب لم يتقدموا في العلوم والفنون والمعارف إلا عندما ارتضوا منهج النقد وتقبل النصح والإرشاد وعدم التعالي على الغير مهما كان ذلك الغير "فرب مبلَّغ أوعى من سامع".
إننا إذا أردنا اليوم أن نعيد لأمتنا مكانتها ومجدها وأن يكون لنا شأن بين الأمم ؛ لا بد من التخلي عن كل رواسب الجهل والتخلف المتمثلة في رفض النقد والرأي الآخر وإتاحة الفرصة للباحثين والمفكرين والنقاد لإبداء آرائهم بكل حرية ومرونة ، وأن ننظر لتلك الآراء بصورة جادة ، ونبحثها بشكل مستفيض ، ونطبق ما صلح منها ، ونستفيد مما أبدع فيها.
إننا من دون ذلك المنهج النقدي لكل مسالك حياتنا ومناهج علومنا ؛ لن نفلح في تغيير واقعنا هذا ، وسنظل في ساحة السباق كالذي يدور حول نفسه لا كالذي ينطلق للأمام ؛ فمتى ننطلق في عملية تقييم شاملة لحياتنا ؛ لنبدأ السباق .. متى....؟!!

صناعة الكراهية

أزمة الإنسانية في زمن متحجر
الحب هو طعم الحياة الذي لم يتذوقه كثير من الناس إلا زائفا من خلال بعض الممارسات الشهوانية التي يتقاسمها بنو آدم مع غيرهم من الكائنات ، وفي اعتقادي أن انسلاخ الإنسان من إنسانيته ، وتحجره كالآلة الصماء هو الذي أورثه هذا التبلد الحسي الذي نراه في كثير من مجتمعاتنا ومجتمعات العالم التي نتشارك معها الإنسانية ، والتي لا شك في أنها مركب من عنصرين هامين: الجسد والروح ؛ وعلى هذين العنصرين أن يتساوقا في مسيرة الإنسان الحياتية بتساو واعتدال ، وما أن تطغى واحدة على أخرى إلا وانحرف الإنسان عن تلك الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
مع ما للروح من أهمية عرفانية دينية ، لكنها دون الجسد لا تساوي شيئا ، فالاهتمام بالروح دون الموازنة مع متطلبات الجسد ؛ سيجرف بالإنسان إلى هاوية التطرف والرهبانية الممقوتة عرفا وشرعا وفطرة ، وكذلك الأمر في الجسد ؛ فالاهتمام به مع إغفال دور الروح في تقويم مساره وضبط حركته ؛ يؤدي بالإنسان إلى البعد عن إنسانيته التي تميزه عن سائر الكائنات إلى أن ينحط أحيانا إلى درك الحيوانات أو أشد ، فينجرف في سيل من متطلبات الجسد التي لا تنتهي عند فتح الباب لها ؛ لأن الجسد دون الروح آلة صماء لا تمل من طلب المزيد من الوقود لتقوية عملها ، فمن دون ذلك الزيت لن تستطيع أن تحترق لتولد الطاقة اللازمة لحياتها ، ومن هنا يصبح الإنسان منساقا لإشباع رغباته وتنويعها بحثا عن السعادة دون جدوى ؛ إذ عنصر السعادة لا يكمن في إشباع رغبات الجسد بمقدار ما يكمن في راحة الروح وطمأنينة النفس ؛ وعليه فإنه يجب على الإنسان أن يوازن في حياته بين متطلبات الجسد والروح ؛ بتلمس احتياجات كل واحدة منها وإشباعها ؛ ليبقى التوازن والوسطية ما يقود الإنسان في حياته ، وبغير ذلك لا بد أن يجنح الإنسان إلى الشر.
ما نراه اليوم عند كثير من الناس من المبالغة في الانغماس في الشهوات والملذات وأنواع المتع الجسدية التي وصلت في بعض الأحيان إلى ارتكاب أفظع الجرائم التي لا يصدقها عقل إنسان ، حتى قرأت مرة أن بعض المجرمين في أمريكا وصل إلى أكل لحم ضحيته ؛ لأنه لم يعد يتمتع بالمتع الجسدية الأخرى لكثرة ما تعاطاها ؛ حسب إحصائياتهم.
وما نراه عند آخرين من التطرف الشديد الذي أوصلهم إلى درجة النظر في الأشياء بنظرة سوداوية قاتمة ، فلا يرى خيرا في شيء أبدا ، ويتوقع الشر يحيط به من كل جانب ؛ حتى افتعل حجة الدفاع عن النفس ، فأخذ أيضا كما فعل الآخر بالاعتداء على الآخرين وقتلهم وتدمير مجتمعاتهم دون مبرر إلا توقع الشر والظن السيئ ، والمبالغة في عزل النفس عن عالمها الجسدي ، وعدم الموازنة في تعاطي الأمور وتغليب جانب على جانب.
استطاع الإنسان بالعقل الذي منحه الله إياه أن يكتشف ويخترع ويصنع من وسائل التكنولوجيا والآلات الحديثة ما وفر سبلا من السعادة والراحة لو استغلها الاستغلال الأمثل لعاش الناس جميعا في رفاهية وسعادة وغنى.
إلا إن الإنسان بدلا أن يسخر هذه الآلات لخدمته وخدمة إخوانه من بني البشر أنتج العكس ؛ فتأثر بالآلة بدلا من أن يؤثر فيها ؛ وأنتج إنسان الآلة الذي يسير وفق قوانينها الإنتاجية التنافسية ؛ ففقد الإحساس والشعور ، وأصبح متحجرا كالآلة التي صنعها ومن هنا بدأت قصة الكراهية وصناعة الموت.
لما وجد أناس هذا الانحياز لمتع الجسد والتخلي عن الجانب الروحاني في الإنسان أرادوا أن يواجهوا هذا المد الهائل من التيبس الروحي ، وما نتج عنه من ظلم للبشرية بسبب الجشع الذي مارسه أصحاب رؤوس الأموال على بني البشر رغبة في الربح السريع وجمع الثروات والحصول على المراكز ، فقاموا بالدعوة إلى التركيز على الروح ، ومحاولة التضحية بأنفسهم في سبيل إنقاذ البشرية من الظلم الناتج عن تعاطي الشهوات والاستغراق في الملذات ؛ فاتخذوا المواجهة مع المد المستعر من المادية بتطرف آخر أفقد رسالتهم سموها ، ودفع بالآخر إلى مواجهتهم بعنجهيته المادية البحتة ، وهاجمهم هجوم المستميت ؛ الذي رأى في نشر الفضائل وقيم المساواة والعدل ضياعا لفرصة السيادة والسيطرة التي يبحث عنها ، وفواتا في الغنى الذي ملأ عليه عقله وكيانه ، فلم يشعر بغيره ، ولم يأبه إلا بنفسه في سبيل أن يتملك ما يستطيع تملكه في هذه الحياة ، وشعاره الذي يرفعه أنا وغيري في الجحيم.
هذا الجشع المادي مع اختيار الطريق المتطرف في معالجة الأمر في المقابل ؛ هو الذي جرنا اليوم لمثل هذه الكوارث ، وهذه الأزمة التي نواجهها لا يمكن علاجها إلا بالعودة إلى الأصل والاعتراف بالآخر أيا كان جنسه أو لونه أو بلده ؛ كشريك في هذه الحياة ، وشريك حيوي بالتعاون والتعايش معه والرضا به ونبذ التمييز بين بني البشر ؛ نستطيع أن نحقق الأمن المطلوب لمن يعيش في هذه الأرض.
إن ما نراه من تنافس استعماري على مر العصور ومحاولة استغلال طائفة من البشر لخدمة آخرين ، وتقسيم الناس إلى سادة وعبيد ، وما مارسه الغرب من استعباد الناس إبان الثورة الصناعية عندهم ؛ إلا دليل على ذلك الجشع والظلم الذي مارسه أصحاب رؤوس الأموال لتنميتها على حساب سحق الفقراء والضعفاء وأكل ثمرة جهودهم المضنية دون اعتبارهم من البشر أصلا.
وما نراه بالأمس القريب من صور الاستعمار البربري الذي مارسته الدول الغربية على الدول العربية وغيرها ، وما صنعته في هذه الدول من جرائم ؛ هي عار على البشرية ، وصورة من صور التحول الإنساني إلى الوحشية التي لا يمتلكها أشد المفترسين فتكا في شريعة الغاب ، أبادوا وقتلوا ونهبوا ، ثم واجهوا المقاومة من أجل التحرير بازدراء وسخرية وقهر ؛ وكأن هؤلاء الناس ليس لهم حق في الحياة أو هم عنصر زائد يجب اجتثاثه من فوق الأرض ، وكأن هؤلاء المستعمرون هم الجنس البشري الحقيقي الذي يجب أن يسود ويبقى.
وما نراه اليوم من عنجهية أمريكا وابنتها المدللة إسرائيل ، وما تمارسه هاتان الدولتان من صور القهر والخداع والتورية والتغطي بغطاء الخائف على الكون ، والراجي سلامته ، والمدافع عن حقوق البشر ومصالح العالمين ، والحارس الأمين للكون من أعداءه ، وما هم في حقيقة الأمر وبشهادة العقلاء منهم إلا قطاع طرق أرادوا أن يمارسوا وظيفتهم لكن بصورة جديدة وبثوب جديد ؛ فهم يلبسون ريش الحمام ، ويتزينون بزينة الكرام ، ويلبسون ثوب المظلوم المتمسكن ، ولكن كل تلك الصور الخارجية الجميلة تحمل أجساد وحوش مفترسة وشياطين متوحشة وأبالسة ملعونة ؛ همها الأول والوحيد السيطرة على البشر ، واتخاذهم خدما لمصالحهم الشخصية الضيقة ، وما نراه أيضا من ظلم بعض الساسة وأصحاب الأعمال في عالم تأليه الذات وحب السيطرة ، وفي عصر الغرق في بحار الجشع ؛ التي جعلت من الإنسان أداة لقهر غيره ، والعيش على جهده وتعبه.
في مقابل ذلك الكم الهائل من الضغط على الإنسانية واستعبادها بدأ بركانها يثور ، ولكن بصورة بشعة أيضا ، فصار الإنسان المسكين الذي لا يملك مقاومة الفريقين هو المستهدف ، ظهرت أشكالا اتخذت صورا عدة وادعت جميعا الهدف نفسه ، كحركات الانفصال والتمرد والمقاومة ، واتخذت حججا مختلفة دينية واشتراكية وعلمانية ، وحججا متنوعة كالدفاع عن الاعتقاد أو المبدأ أو الوطن أو الحرية أو مواجهة الطاغوت ، ودفعها كل ذلك إلى اتخاذ شتى الوسائل والإجراءات التي تستطيع أن تحقق بها غاياتها ؛ كانت تلك الوسائل مشروعة أم غير مشروعة ؛ فنتج الإرهاب من تلك الممارسات التي لم تميز بين المعتدي والبريء ، وزهق بسببها أرواحا بريئة ليس لها في هذه المعمعة صوت ولا سلاح.
إن هذا الصراع العجيب بين الطرفين أشعل جذوة النار ؛ لتصل إلى أعلى مستوياتها ، وظهر من يبرر العنف بحجة الدفاع عن النفس ، وشرع بعض من الطرفين قوانين همجية بحجة القضاء على الآخر ؛ لأنه في نظره سبب هلاك العالم ، ومما زاد الطين بلة اقتناع كثير من الناس بما تمارسه هذه الجماعات من أعمال ؛ لما تمارسه بعض الكيانات السياسية من أعمال همجية حيوانية ، لا تتصل بالإنسانية بصلة ؛ كممارسات أمريكا في العراق وسجن أبو غريب بالتحديد ، وما صنعته في سجن غوانتنامو من فضائع بحق البشرية ، وما تمارسه إسرائيل من مجازر في حق الفلسطينيين ، وما تمارسه بعض الكيانات السياسية من ظلم للإنسان واعتداء على حقه في الحرية وممارسة أشد أنواع القهر والظلم والتعذيب على رعاياها ؛ كل ذلك أدى إلى انهيار القيم الإنسانية ، وتبلد الحس الإنساني ، وابتكار أصناف من وسائل الدفاع لم تصب العدوين بأذى مثل ما أصابت من لا ناقة له ولا جمل في هذا السباق الملعون.
ما استخدمته أمريكا راعية الإرهاب اليوم من وسائل فتك وقتل وتدمير ، ومن أسلحة وقنابل محرمة دوليا بحجة القضاء على الإرهاب راح ضحيته الأبرياء ، وما قام به الإرهابيون بحجة الدفاع عن الحق المغتصب من تفجيرات وقتل ونهب في الأماكن العامة لم يصب إلا الأبرياء أيضا ؛ فأصبح العالم بين فكي وحش مفترس لم يراع دينا ولا ذمة ولا خلقا ولا إنسانية ، يتلذذ بطحن البشر كما تلذ الآلة في طحن الحم لإعداده لوجبة هامبرجر شهية ، وأمست صور القتل والتفجير وكأنها أحداث فلم خيالي تعرض فيه هذه المشاهد لإثارة الجمهور وجذبه فقط.
ما نحتاجه اليوم في عالم بوش وبلير ورابين وألمرت ، وفي عالم الطاغوت من الحكام الظلمة المتألهين ، وفي عالم التهور الممقوت ؛ أن نقف جميعا في وجهه هذه التيارات التي سخرت كثيرا من مواردنا التي وهبنا الله إياها لنعيش عيشة سعيدة ؛ لهلاك الحياة في سباق محموم للتسلح الذي أردى عالمنا في بحر من الدم والخراب والحقد والكراهية ، ولكن رغم بشاعة ما تمارسه بعض الكيانات على وجه الأرض من اعتداء غاشم إلا إنني لا أرى استخدام وسائلهم الطريقة الأمثل للقضاء عليهم ، بل بالدعوة إلى العودة إلى الفطرة الإنسانية إلى التعايش السلمي إلى قبول الآخر إلى الجلوس على طاولة النقاش ، ولا ندعو أحدا أن يتنازل عن مبادئه أو قيمه أو عقائده ، فله أن يعتقد ما شاء وإن ظن أن معتقده الحق فليعرضه كما يعرض التاجر سلعته ، وليجوده ويحسنه بالسلوك الحسن والخلق الفاضل ، وإرادة الخير للناس ، أما عرض البضاعة بالقوة فلن يثمر إلا حقدا وحربا وكراهية ، والحق أغر أبلج يراه رائيه من بعيد ؛ لا حاجة للإنسان أن يبتكر وسائل القوة والجبروت ؛ كي يقنع الناس بأنه الحق ، وخير دليل على ذلك فشل أمريكا والاتحاد السوفيتي قبلها في تسويق ما يؤمنان به بالقوة .... فهل من معتبر؟!