استلاب الذات (2)

من حق المؤسسات التجارية والإنتاجية حول العالم أن تتنافس في تكوين زبائن دائمين لمنتجاتها حتى تستطيع أن تستمر في مجال السباق الاقتصادي الحامي وخاصة في عصر الآلة ، ومن حقها أن تمارس سطوتها بكل الوسائل والطرق الممكنة من أجل إكساب ذوات البشر القدر الكافي من القناعات التي ربما في كثير من الأحيان خاطئة وليست صحيحة حول منتجاتها ؛ لتوفير الربح اللازم ولو على حساب الآخرين ، ولعبة الربح والخسارة ربما تبرر لأمثال هؤلاء استلاب الذوات وتذويبها فيما يدر عليها الربح ويبعد عنها شبح الخسارة والإفلاس.
ولكننا اليوم أمام ركن آخر من أركان استلاب الذات وتذويبها في أفكار ربما لا تليق مطلقا ببني البشر ، ذلك الركن هو المؤسسات السياسية الحاكمة والتي تحاول إخضاع الإنسان إلى سطوتها وقوانينها بدلا من حمايته وحماية حقوقه في امتلاك ذات حرة مستقلة ؛ فالإنسان من المفترض أن يكون صاحب إرادة مطلقة وعقل مستقل في اختيار الطريق التي يريد أن يسلكها في حياته وحتى الدين أكد على ذلك "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" ، وقد أكد ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقولته المشهورة لعمرو بن العاص: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" ، ولذا فإن الفطرة التي فطر الإنسان عليها هي الحرية التي تعد أفضل ما وهب الإنسان وكرم به.
كان من الواجب على أنظمة الحكم في كل مكان أن تضمن صيانة الذات من الاستلاب وأن توفر لها قدرا من الحماية يكفل لها التحرك في مساحة واسعة من الحرية ، لتضمن لها بعد ذلك قدرا من الإبداع الذي تتحرك به الحياة في كل مكان.
رغم أن الدور الذي يفترض أن تقوم به هذه المؤسسات هو المحافظة على الإنسان لكننا نجد ذلك الدور قد غاب عن ذهنها فأصبحت في هذا الزمان وأزعم في شتى أنحاء العالم تساعد وبشدة على محو الذات الإنسانية واستلابها والقضاء على مقومات الإبداع فيها إلا في الجوانب التي تخدم تلك المؤسسات وما ترنو له من أهداف وما تتطلع له من غايات.
لم يعد للشريحة العظمى من البشر أي رأي فيما تقوم به المؤسسات السياسية ولا فيما تتخذه من قرارات في نظري جرت على العالم ولايات من الحروب والدمار والتشتت والتشرذم والعداء بين بني البشر ، وكل من يحاول أن يتصدى لتلك السياسات التي تحاول إذابة الذات البشرية بجموعها في تلك الأفكار الرديئة الأنانية ، يعتبر عدوا للحقيقة وتلصق به التهم ويضيق عليه في حياته ويصور أمام الناس خائنا لوطنه وشعبه.
تمارس الأنظمة الحاكمة اليوم حول العالم سطوتها في تمرير أمور كثيرة في غالب الأحيان هي أمور لا تخدم إلا فئة صغيرة من البشر وعن طريق نفس الوسائل التي تتخذها المؤسسات الاقتصادية للترويج عن سلعها ، كان من المفروض على المؤسسات السياسية لا أقول أن تمنع وسائل الإعلام ولكن أقول أن تصنع إعلاما تحاول به أن تحد من استلاب الذات وإفقادها لحريتها ، ولكن العكس هو المتولد اليوم ؛ فوسائل الإعلام التي تخدم هذه المؤسسات تقوم بدور وللأسف الشديد أسوأ من الدور التي تقوم به وسائل الإعلام التجارية أو الداعمة للمؤسسات الإنتاجية ، فهذه الأخيرة لا تحاول أن تقنع أو تستأثر ببعض ما تملكه الذات البشرية بل تحاول أن تسلب الذات البشرية إرادتها كاملة لتنسجم تلك الذوات مع الإرادة السياسية للفئة الحاكمة وتخضع عن طريق غسيل المخ الذي يصور البشر في حالة من السقم العقلي بحيث لا يستطيعون التفكير ولا اتخاذ القرار الصحيح ، وبذلك عليهم الخضوع المطلق لأفكار الحاكمين الذين تفوق عقولهم عقول البشر جميعا.
في نظري أضحت المؤسسات الحاكمة حول العالم شركات كبيرة تحاول جذب الزبائن لمنتجاتها ، واستخدمت القوة التي تملكها عن طريق المذوبين ذاتيا والمسلوبين عقليا من العساكر الذين أغروا وبطرق شتى من أبرزها غسل العقول عن التفكير ؛ فسخر هؤلاء الذين هم جزء من الشعوب لحربها من أجل فئة من الناس ، استطاعت بلؤمها وخداعها وسيطرتها على موارد الحياة أن تتملك ذوات أولئك البشر وتستخدمهم في سحق نظرائهم.
تستغل المؤسسات الحاكمة اليوم مقدرتها على التشريع لتجعل من المال المحرك الرئيسي لهيمنتها على العالم ، فنجاحها في ربط البشر بالمال الذي جعلته يدور في دائرة مفرغة حين يقع في يد المواطن ليعود مرة أخرى إليها عن طريق الضرائب والرسوم أو صرف تلك المبالغ في المؤسسات الاقتصادية التي بشكل أو بآخر لها علاقة وطيدة بتلك الأنظمة.
هناك اليوم وعن طريق الأنظمة السياسية ثالوث يحاول أن ينتهك حرمة الذات الإنسانية ويقضي على إرادتها ويخدرها من أجل تحقيق المكاسب لذلك الثالوث الخانق الذي طوق العالم ؛ فالشركات ومالكيها من أصحاب رؤوس الأموال وأصحابهم من السياسيين ، ورفقائهم من الإعلاميين يمارسون اليوم جريمة عظمى في حق الذات الإنسانية ، وفعلا فقد طمست معالم الإنسانية في كثير من البشر فأضحوا مجرد آلات يحركها ثالوث الجشع ليصب جهودهم في خدمته.
وما نراه اليوم من محاولة إدماج العالم في فكر واحد ، وإلغاء لخصوصيات الشعوب وممارسة التهميش لعقائد الآخرين وأفكارهم من أجل السيطرة على عقول الآخرين والرغبة في امتلاكهم ، فعلى مستوى العالم تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة أوروبا بإدارة لعبة لتسويق حضارتها وأفكارها وعقائدها ، للهيمنة المطلقة على العالم ، مما ولد صراعات كثيرة حول العالم ، وأنشأ قوى في المقابل تحاول أن تتصدى وبقوة لتلك اللعبة ، مما قسم العالم في نظر أمريكا إلى قوى شر وقوى خير ؛ لأن قوى الشر هي التي حاولت أن تحافظ على ذاتها وتحفظ لنفسها استقلالها ولم تتماهى مع المشروع الرامي إلى تذويبها في مشروع الهيمنة الأمريكية على العالم.
وما يحزن حقا أن الأنظمة الحاكمة في الدول العربية تقوم أيضا بدور فاعل في استلاب ذوات مواطنيها وتسخيرهم لخدمة الساسة وأصحاب الطبقات العليا من الأغنياء وملاك المال وقد تحدثنا سالفا عن ذلك الدور الهزيل الذي تمارسه هذه الأنظمة ضد شعوبها ، محاولة أن تجعل الحياة محصورة في أفكار فئة محدودة وإلغاء دور الآخر إلا إذا كان يحوم حول حمى تلك الفئة.
في نظري إن الذات العربية ذات مسلوبة الإرادة بين أمرين: الأول انبهارها بالحضارة الغربية وسلوكها طريقا خطأ في الاقتداء بالغرب ، فلم تأخذ منه إلا الشكل أما المضامين الجيدة وهي لا شك أفضل فيها بكثير منا وإن كانت في كثير من الجوانب بحاجة إلى مراجعة ؛ لم يكن لغالب العرب من تلك المضامين نصيبا. والثاني: يتمحور في الجهود التي تبذلها الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية لسلب الإرادة الكامنة في نفس العربي لتجعله مجرد ناعق بأفكارها وتابع لقادتها دون وعي أو تفكير ، ومن يجرأ أن يستعمل ذاته لنقد أو معارضة لتلك الفئة استلمته أنظمة السلخ والتعذيب لإيقافه عند حده.
وحتى لا أكون جائرا في الحكم فإن لبعض الدول العربية تجارب رائدة في محاولة استرجاع ما للذات العربية من حقوق ولكنها تجارب صغيرة ومحدودة ولا زالت تحتاج إلى مزيد من التقنين والرعاية.

استلاب الذات(1)

لا يمكنني وأنا أتحدث عن الذات الإنسانية والذات العربية بشكل خاص في عصر العولمة أن أتغافل الدور الذي تلعبه القوى المهيمنة على العالم اليوم في إدارتها للعبة المهينة على الذات الإنسانية التي لم تعد في ظل عناصر اللعبة الجديدة قادرة على تحديد دورها المستقل الذي تستطيع أن تبدع من خلاله ما يميزها عن غيرها من الذوات أو أن تمنح نفسها استقلالية تبعث في النفس ارتياحا لكون الإنسان مازال حرا ومستقلا وقادرا على إعمال فكره بطريقة بعيدة عن التبعية التي وصلت إلى حد العبودية في أحيان كثيرة.
رغم ما نراه من المناشدة الحثيثة الملغومة بسياسات وتطلعات وأمان كاذبة في أغلبها -كما أدعي- المناشدة بحرية الإنسان وضمان استقلاليته واحترام إرادته إلا إننا نرى التجارب الواقعية في ذلك تتمحور حول استلاب الذات ومحاولة طمسها في خطط تضمن لأصحابها تبعية جميع الذوات لتلك الخطط اللئيمة والتي حولت الإنسان كائنا آليا مبرمجا على الاستجابة لتلك الخطط المريضة ، وعندما ترفض الذات الحرة تطبيق تلك البرامج ذات الطابع الفيروسي والتي تريد أن تقضي على الأسس الأصيلة التي برمج عليها الإنسان وفي مقدمتها الحرية التي وهبه الله إياها ؛ نرى أن تلك المؤسسات تحاول إلصاق التهم المختلفة بأولئك الذين رفضوا استلاب ذواتهم والإطاحة بإرادتهم لينفروا الناس من أفكارهم الحرة ، وليطمسوا معالم الاستقلال التي يسعون لها.
ليس غريبا على الشركات التي تحتاج إلى ربحية عالية ممارسة تلك اللعبة القذرة والتي تهيأت لها عن طريق استغلال وسائل الإعلام أو الإعلان بشكل أدق والتي جعلت من مسعاها الوحيد صناعة المكسب المادي دون النظر إلى القيم ذات الطابع الإنساني الأصيل في جعل الممارسة الإعلامية ممارسة شريفة هدفها الإصلاح ما استطاعت إلى ذلك سبيلا ؛ ليس غريبا عليها أن تحاول امتلاك عقول البشر وسلب ذواتهم بشتى الطرق والوسائل التي تساعدها على تحقيق تلك الربحية ، ومن هنا كان لتلك الشركات خططها الإعلانية المؤثرة على العقول مستغلة بعض ذوي الشهرة الذين على استعداد إلى تقديم ما يملكون من خبرات في مجال الفن الرخيص لتحقيق مآرب تلك الشركات وزرع الثقة العمياء في منتجاتها دون أن ينظروا إلى استحقاق تلك المنتجات وما يقدمونه للناس من طرح هل يتوافق ورسالة الفن التي يدعونها؟!
يمارس المشاهير اليوم جزءا كبيرا من الخيانة العظمى للذات البشرية ويشاركون بشكل مباشر في استلابها والقضاء على شخصيتها ، وفي الجانب الآخر يسمح البشر لأنفسهم تقبل ذلك دون وعي أو إدراك لخطورة تقبل تلك الأمور على أنها من المسلمات من أجل شهرة أصحابها ، لأن الترويج للبضائع تبعه الترويج لأفكار أخرى جرت على المؤمنين بها كوارث جمة.
تحدثنا مرارا عن الدور الذي يلعبه الإعلام في حياتنا وهو دور ليس بالهين كما يعتقده كثيرون ، دور جعل من رمم في حياتنا المعاصرة آلهة تعبد وجعل من أمور لا تقدم ولا تأخر شيئا في حياة البشر من المهمات العظام ، وأخل بكثير من القيم والثوابت الحسنة والتي لا يمكن الاستغناء عنها في أي عصر من العصور لتستقيم حياة الإنسان وأبدلها السيئ الرديء فاختلط الحابل بالنابل والجيد بالفاسد حتى أصبح ذي اللب في حيرة من أمره.
ما تطمح له الذات الإنسانية اليوم؟ سؤال لا بد أن يطرح ، وهل أضحى اهتمام الجيل القادم كما اهتمام الجيل السابق بالعلم والمعارف ؟ سؤال لا بد من تعاطيه ، وهل المستوى الخلقي والعلمي والثقافي الذي يمارسه الناشئة اليوم كما هو عليه في الجيل الماضي؟ لا... وللأسف لا... اسأل أصحاب الشأن في ذلك اسأل أرباب التربية والتعليم اسأل المعلمين الذين عاصروا أجيالا مختلفة اسأل الجيل السابق ستجد الجواب ماثلا أمامك ، اسأل الشباب عن اهتماماتهم ستجد الجواب صاعقا ، وإذا أردت فلا تسأل وراقب من بعيد ومن يعش رجبا يجد عجبا.
ولعل بعض المتفلسفين الجدد سيصمني بالتخلف والرجعية والنظرة القديمة البالية ، ولكن لن آبه لذلك وسأتركه في سباته العميق حتى يجرفه التيار ويشعر بالماء الجارف تحت قدمه يلين الأرض من تحتها ليلقيه في هيجانه الذي لا يرحم.
جميع من تكلمه من البشر يؤكد لك أن الجيل الجديد جيل الإعلام الهزيل جيل التقليد جيل الذات المسلوبة المفتقرة إلى أبسط أدوات الذات المستقلة ، جيل لا يجيد سوى أن يسير على خطى الآخرين ويصنع ما يصنعه المشاهير الذين أجادوا لعبة تمزيق الذات الإنسانية واستلابها واستطاعوا أن يرسموا له معالم حياته التي تهتم بالتوافه وتقليد التقاليع التي يظهر عليها أولئك المشاهير ، وكم من شاب فقد حياته والإحصائيات تملأ الأرفف بسبب ذلك التقليد.
ما تقوم به وسائل الإعلام الحديثة من دور تربوي -إن صح التعبير- أفقد المؤسسات الأخرى ذات الأهمية القصوى في تنشئة الجيل وأقصد بذلك المؤسسات التربوية التقليدية في مقابل الطفرة الكبيرة لوسائل الإعلام وسهولة الوصول إليها والمتع التي تقدمها ألبست المؤسسات التربوية الحقيقية مثل المدارس والجامعات لباسا أضحى ثقيلا على مرتاديها ؛ لأن الأولى لا تطلب سوى مجرد الجمود أمامها ومتابعة ما تعرضه دون حراك أو مشاركة ، أما الثانية فإنها تحمل المنتسب إليها عبأ المتابعة والتفاعل الإيجابي والذي يبني ذات الناشئة ويرسم لها خطى الاستقلالية والإبداع ، وإن كانت هذه المؤسسات وخاصة في دولنا العربية غير قادرة على بناء ذات قوية تستطيع أن تبدع بشكل فاعل في الحياة.
إننا أمام مشكلة لا بد من التنبه لها وبشكل يضمن لنا وضع النقاط على الحروف أو بمعنى آخر وضع العلاج المناسب لها ، وإذا ما لم تتخذ المجتمعات خطوات جادة في ذلك فإننا سنجد الجيل القادم جيلا لن يستطيع مواجهة الحياة بالصورة التي تتطلبها تعقيداتها الناتجة عن أشكال التكنولوجيا الحديثة ، ولن نجد من المبدعين من يستطيع أن يبتكر ما ينفع البشرية أو يجدد حياتها ولن نرى إلا جيلا هزيلا ينظر من خلال عيون الآخرين ويفكر بعقولهم.
وعندها تصبح اللعبة في يد المسيطرين على العالم والذين همهم توجيه أنظار الناس إلى مخططاتهم الرأسمالية والاستفادة قدر المستطاع من السقم الذي أصاب كثيرا من الذوات التي أضحت مسلوبة الإرادة الإنسانية التي توجهها دائما إلى الاستقلالية والابتكار.

الابستومولوجيا

نقد العلم ... والنمو الحضاري
أين نحن من ذلك؟
أخذت الدول المتقدمة على نفسها منذ أن جعلت العلم أحد الأسس المهمة في مسيرتها الحضارية التي تكللت بالنجاح وسيادة العالم وقيادته ؛ انتهاج طريق النقد الذاتي ، والوقوف بإجلال تجاه النقد الغيري ؛ لتستفيد من ذلك النقد في إصلاح ما اعوج من طريقها ، وتصحيح ما انحرف وزل في علومها ومعارفها ، وتجديد الأفكار وصياغتها من خلال منظومة متكاملة لا تحدها الحدود السياسية أو القومية أو العرقية ، ولذلك كان اهتمامها بالعلماء والنقاد والباحثين من كل أنحاء العالم بغض النظر عن بلدانهم أو معتقداتهم أو ألوانهم أو أشكالهم ما داموا يخدمون الهدف الذي تسعى هذه الدول لتحقيقه.
بينما نرى هجرة العلماء والمفكرين والمبدعين من بلداننا العربية الإسلامية ؛ حيث لا يجدون مكانا يقعدون فيه ولا بيئة يبدعون من خلالها ، نجد دولا من أمثال أمريكا ودول أوروبا تستقبلها بالأحضان وتهيأ لها كل ما تحتاجه في سبيل العلم والمعرفة ؛ مما جعل تلك الدول حقا في مقدمة الدول وعلى رأس سلم الحضارة والتقدم.
وفي عالم اليوم نجد أن الغرب يهتم بتطوير سبل العلم وتحسين أداء العلماء والباحثين ويثير من القضايا العلمية المختلفة ما يجعل ساحة العلم لديهم ساحة مضطرمة ومصقولة ومتجددة ، كعين من الماء الذي ينبع بسلسبيل من النظريات والقواعد والأسس التي لا يتوقف سيل جريانها عن الانبعاث ولا يجف عن العطاء في سقي شجرة العلم بكل جديد ومفيد.
ومما نجده عند تلك الدول اهتمامها بعملية النقد وتقييم الذات والوقوف عند السلبيات والتعرف على الأخطاء وصقل الإيجابيات وتحسينها بدافع التجويد في العمل والتقدم في الأداء ، وما يشهد على ذلك ظهور علم الابستومولوجيا ، وهذا المصطلح ابتكره الفيلسوف جميس ف. فيريه في كتابه مجموعة مبادئ الميتافيزيقا عام (1854م) ، وظلت هذه الكلمة بين طيات الكتب حتى أُعْلِن عن ولادة استخدامها في عام (1906م) كمصطلح يدل على (نظرية المعرفة) بشكل عام ، قبل أن تتطور إلى ما عليه اليوم من معنى (نظرية العلم) أو (نقد العلم) ، هذه النظرية تُعنى في أساس نشأتها بنقد المناهج المختلفة للعلوم المختلفة وأسسها وأدواتها بغية التعرف على نقاط الضعف ومحاولة تحسين الأداء فيها.
إن الاهتمام بالابستومولوجيا هو محاولة لتأسيس علم منهجي تقوم عليه عملية النقد ؛ لها أدواتها الخاصة وطرائقها المتفق عليها ؛ حتى تتم هذه العملية وفق ضوابط يتفق عليها جميع الباحثين ؛ من أجل البعد عن الذاتية التي في كثير من الأحيان قد تتجه بالبحث إلى الشمولية أو الآراء غير العلمية أو الميل إلى الأحكام المسبقة ومحاولة تطبيع البحث بطابع التجني أو لَيِّ الأمور لتتوافق وقناعة الباحث المسبقة ، ويدل في المقابل على اهتمام الغرب بعملية تطوير الذات والبعد عن التخبط والعشوائية وتمجيد النفس وعدم الرضا بالنقد الذي يتساوق معه الغرور وعدم الاعتراف بالخطأ ؛ مما يؤدي في النهاية إلى الفشل والتخلف في مجالات كثيرة.
وعندما نأتي إلى تلمس واقع دولنا العربية الذي حق للعالم المتقدم أن يطلق عليها دول العالم الثالث ، أو الدول النامية أيا كان المصطلح ؛ فهو يدل عندهم على تخلف هذه الدول وتمركزها حول الذيل للمذنب الحضاري العالمي الذي يسير بسرعة الضوء ، بينما يسير في مجتمعاتنا بسرعة السلحفاة.
إننا في العالم العربي لا نرضى بعملية النقد مطلقا ؛ لأن الذي نفعله دائما يحمل هالة من العصمة عن الخطأ أو النقص أو الخلل ، وفي أحيان كثيرة تأخذ الأمور هالتها من الأشخاص التي تصدر عنهم ؛ فالمساس بها مساس بتلك الشخصيات ؛ لأن العلم في واقعنا العربي المعاش -وهو واقع أليم- يرتبط بالمؤسسات والأفراد أكثر من ارتباطه بالمناهج والأسس التي يقوم عليها.
ولذلك نجد أن الابستومولوجيا لم يستقر مفهومها بعد قرن من ظهورها في عالمنا العربي-بغض النظر عن تطبيقها- فمازال السؤال عن ماهية الابستومولوجيا قائما في دراساتنا العربية ، بل ربما هناك من الباحثين من لم يسمع بالكلمة بتاتا فكيف بعامة الناس في مجتمعاتنا؟ هناك محاولات من بعض الباحثين المغاربة في هذا الشأن لتقريب المصطلح ورسم حدوده ، لعلنا نتنبه إلى أهميته في حياتنا ومحاولة استخدامه في واقعنا العملي والعلمي والإفادة منه في مسيرة حياتنا المعاصرة لتحقيق أكبر قدر من النجاح في خططنا المستقبلية ؛ فأتت محاولة محمد عابد الجابري في كتابه "مدخل إلى فلسفة العلوم" ومحمد وقيدي في كتابه "ما هي الابستومولوجيا؟" وعبد السلام بنعبد العالي وسالم يفوت في كتابهما "درس الابستومولوجيا" ، هذه المحاولات لتقريب مصطلح الابستومولوجيا وتحديد مهامه والتي تؤكد على أن الابستومولوجيا ليست نظرية عامة في المعرفة ، وإنما هي تفكير نقدي في المعرفة العلمية بشكل خاص ؛ كما هو الحال عليه كمصلح عند الغرب.
هذه المحاولات التأصيلية لمفهوم الابستومولوجيا في العالم العربي لا يعد "إنتاجا لمعرفة جديدة ؛ "فكل الكتابات لا تعدوا أن تكون مداخل إلى العلم لا تأليفا فيه ومساهمة في تطويره" ، وإذا ما نظرنا إلى خصوصية الثقافة العربية الإسلامية كان لا بد أن يكون لنا فلسفة نقدية فكرية خاصة تتناسب وقيمنا وفكرنا وواقعنا وعلومنا ومناهجنا ، يساعد ذلك الفكر النقدي في تقييم الواقع العربي بشكل موضوعي ونزيه ، نحاول جميعا أن نطبِّع من خلاله أنفسنا على عملية التقويم ونعدها لعملية التغيير ، والنظر إلى الأمور من ناحية المصلحة العامة ؛ مصلحة الثقافة العربية والحضارة العربية والعلوم العربية ؛ ليعود لها مكانها المنسي ، ولكن أين ذلك العلم؟
إنني عندما أعيد بعض الصور القيمية التي عاشها الرعيل الأول من سلف هذه الأمة والتي سرعان ما تناسينا تأسيسها في مجتمعاتنا واستبدلناها بقيم التسلط والرفض والتمجيد للأفراد على حساب الجماعات ؛ هذا الانقلاب على تلك القيم هو الذي أورثنا التخلف ، والأخذ بتلك القيم هو الذي أورث غيرنا التقدم.
ولك من ذلك بعض الأمثلة : عتاب القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات مرة في الأعمى عبد الله بن أم مكتوم ، ومرة لما سألته قريش عن مسائل من الغيب فرد أنه سيحضر الجواب غدا ونسي أن ينسب ذلك لله " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ، وأخرى في قضية أسرى بدر ، ورابعة في صلاته على المنافقين ، و في بعض تلك الأمور أتت المعارضة من بعض الصحابة كعمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ فينزل القرآن بتأييد قول المعارضة ؛ وتلك المرأة التي وقفت لعمر وهو على المنبر في حديثه عن مهر المرأة والتقليل من شأنه ؛ فما كان لعمر أن يقول ، أصابت امرأة وأخطأ عمر ، وتلك المرأة التي وقفت ترشد عمر وتوجهه ؛ فلما أراد أصحابه أن يسكتوها قال : دعوها فقد سمع الله قولها من فوق سبع سماوات فكيف بعمر؟ ، وقوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" ، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي سلمان في حفر الخندق وغيرها ؛ ألا يدل على أن مبدأ المشاورة والمعارضة الهادفة والنقد البناء مقرر في حضارتنا ؛ فلماذا استبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو أعلى؟! ولذلك فإن العرب لم يتقدموا في العلوم والفنون والمعارف إلا عندما ارتضوا منهج النقد وتقبل النصح والإرشاد وعدم التعالي على الغير مهما كان ذلك الغير "فرب مبلَّغ أوعى من سامع".
إننا إذا أردنا اليوم أن نعيد لأمتنا مكانتها ومجدها وأن يكون لنا شأن بين الأمم ؛ لا بد من التخلي عن كل رواسب الجهل والتخلف المتمثلة في رفض النقد والرأي الآخر وإتاحة الفرصة للباحثين والمفكرين والنقاد لإبداء آرائهم بكل حرية ومرونة ، وأن ننظر لتلك الآراء بصورة جادة ، ونبحثها بشكل مستفيض ، ونطبق ما صلح منها ، ونستفيد مما أبدع فيها.
إننا من دون ذلك المنهج النقدي لكل مسالك حياتنا ومناهج علومنا ؛ لن نفلح في تغيير واقعنا هذا ، وسنظل في ساحة السباق كالذي يدور حول نفسه لا كالذي ينطلق للأمام ؛ فمتى ننطلق في عملية تقييم شاملة لحياتنا ؛ لنبدأ السباق .. متى....؟!!

صناعة الكراهية

أزمة الإنسانية في زمن متحجر
الحب هو طعم الحياة الذي لم يتذوقه كثير من الناس إلا زائفا من خلال بعض الممارسات الشهوانية التي يتقاسمها بنو آدم مع غيرهم من الكائنات ، وفي اعتقادي أن انسلاخ الإنسان من إنسانيته ، وتحجره كالآلة الصماء هو الذي أورثه هذا التبلد الحسي الذي نراه في كثير من مجتمعاتنا ومجتمعات العالم التي نتشارك معها الإنسانية ، والتي لا شك في أنها مركب من عنصرين هامين: الجسد والروح ؛ وعلى هذين العنصرين أن يتساوقا في مسيرة الإنسان الحياتية بتساو واعتدال ، وما أن تطغى واحدة على أخرى إلا وانحرف الإنسان عن تلك الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
مع ما للروح من أهمية عرفانية دينية ، لكنها دون الجسد لا تساوي شيئا ، فالاهتمام بالروح دون الموازنة مع متطلبات الجسد ؛ سيجرف بالإنسان إلى هاوية التطرف والرهبانية الممقوتة عرفا وشرعا وفطرة ، وكذلك الأمر في الجسد ؛ فالاهتمام به مع إغفال دور الروح في تقويم مساره وضبط حركته ؛ يؤدي بالإنسان إلى البعد عن إنسانيته التي تميزه عن سائر الكائنات إلى أن ينحط أحيانا إلى درك الحيوانات أو أشد ، فينجرف في سيل من متطلبات الجسد التي لا تنتهي عند فتح الباب لها ؛ لأن الجسد دون الروح آلة صماء لا تمل من طلب المزيد من الوقود لتقوية عملها ، فمن دون ذلك الزيت لن تستطيع أن تحترق لتولد الطاقة اللازمة لحياتها ، ومن هنا يصبح الإنسان منساقا لإشباع رغباته وتنويعها بحثا عن السعادة دون جدوى ؛ إذ عنصر السعادة لا يكمن في إشباع رغبات الجسد بمقدار ما يكمن في راحة الروح وطمأنينة النفس ؛ وعليه فإنه يجب على الإنسان أن يوازن في حياته بين متطلبات الجسد والروح ؛ بتلمس احتياجات كل واحدة منها وإشباعها ؛ ليبقى التوازن والوسطية ما يقود الإنسان في حياته ، وبغير ذلك لا بد أن يجنح الإنسان إلى الشر.
ما نراه اليوم عند كثير من الناس من المبالغة في الانغماس في الشهوات والملذات وأنواع المتع الجسدية التي وصلت في بعض الأحيان إلى ارتكاب أفظع الجرائم التي لا يصدقها عقل إنسان ، حتى قرأت مرة أن بعض المجرمين في أمريكا وصل إلى أكل لحم ضحيته ؛ لأنه لم يعد يتمتع بالمتع الجسدية الأخرى لكثرة ما تعاطاها ؛ حسب إحصائياتهم.
وما نراه عند آخرين من التطرف الشديد الذي أوصلهم إلى درجة النظر في الأشياء بنظرة سوداوية قاتمة ، فلا يرى خيرا في شيء أبدا ، ويتوقع الشر يحيط به من كل جانب ؛ حتى افتعل حجة الدفاع عن النفس ، فأخذ أيضا كما فعل الآخر بالاعتداء على الآخرين وقتلهم وتدمير مجتمعاتهم دون مبرر إلا توقع الشر والظن السيئ ، والمبالغة في عزل النفس عن عالمها الجسدي ، وعدم الموازنة في تعاطي الأمور وتغليب جانب على جانب.
استطاع الإنسان بالعقل الذي منحه الله إياه أن يكتشف ويخترع ويصنع من وسائل التكنولوجيا والآلات الحديثة ما وفر سبلا من السعادة والراحة لو استغلها الاستغلال الأمثل لعاش الناس جميعا في رفاهية وسعادة وغنى.
إلا إن الإنسان بدلا أن يسخر هذه الآلات لخدمته وخدمة إخوانه من بني البشر أنتج العكس ؛ فتأثر بالآلة بدلا من أن يؤثر فيها ؛ وأنتج إنسان الآلة الذي يسير وفق قوانينها الإنتاجية التنافسية ؛ ففقد الإحساس والشعور ، وأصبح متحجرا كالآلة التي صنعها ومن هنا بدأت قصة الكراهية وصناعة الموت.
لما وجد أناس هذا الانحياز لمتع الجسد والتخلي عن الجانب الروحاني في الإنسان أرادوا أن يواجهوا هذا المد الهائل من التيبس الروحي ، وما نتج عنه من ظلم للبشرية بسبب الجشع الذي مارسه أصحاب رؤوس الأموال على بني البشر رغبة في الربح السريع وجمع الثروات والحصول على المراكز ، فقاموا بالدعوة إلى التركيز على الروح ، ومحاولة التضحية بأنفسهم في سبيل إنقاذ البشرية من الظلم الناتج عن تعاطي الشهوات والاستغراق في الملذات ؛ فاتخذوا المواجهة مع المد المستعر من المادية بتطرف آخر أفقد رسالتهم سموها ، ودفع بالآخر إلى مواجهتهم بعنجهيته المادية البحتة ، وهاجمهم هجوم المستميت ؛ الذي رأى في نشر الفضائل وقيم المساواة والعدل ضياعا لفرصة السيادة والسيطرة التي يبحث عنها ، وفواتا في الغنى الذي ملأ عليه عقله وكيانه ، فلم يشعر بغيره ، ولم يأبه إلا بنفسه في سبيل أن يتملك ما يستطيع تملكه في هذه الحياة ، وشعاره الذي يرفعه أنا وغيري في الجحيم.
هذا الجشع المادي مع اختيار الطريق المتطرف في معالجة الأمر في المقابل ؛ هو الذي جرنا اليوم لمثل هذه الكوارث ، وهذه الأزمة التي نواجهها لا يمكن علاجها إلا بالعودة إلى الأصل والاعتراف بالآخر أيا كان جنسه أو لونه أو بلده ؛ كشريك في هذه الحياة ، وشريك حيوي بالتعاون والتعايش معه والرضا به ونبذ التمييز بين بني البشر ؛ نستطيع أن نحقق الأمن المطلوب لمن يعيش في هذه الأرض.
إن ما نراه من تنافس استعماري على مر العصور ومحاولة استغلال طائفة من البشر لخدمة آخرين ، وتقسيم الناس إلى سادة وعبيد ، وما مارسه الغرب من استعباد الناس إبان الثورة الصناعية عندهم ؛ إلا دليل على ذلك الجشع والظلم الذي مارسه أصحاب رؤوس الأموال لتنميتها على حساب سحق الفقراء والضعفاء وأكل ثمرة جهودهم المضنية دون اعتبارهم من البشر أصلا.
وما نراه بالأمس القريب من صور الاستعمار البربري الذي مارسته الدول الغربية على الدول العربية وغيرها ، وما صنعته في هذه الدول من جرائم ؛ هي عار على البشرية ، وصورة من صور التحول الإنساني إلى الوحشية التي لا يمتلكها أشد المفترسين فتكا في شريعة الغاب ، أبادوا وقتلوا ونهبوا ، ثم واجهوا المقاومة من أجل التحرير بازدراء وسخرية وقهر ؛ وكأن هؤلاء الناس ليس لهم حق في الحياة أو هم عنصر زائد يجب اجتثاثه من فوق الأرض ، وكأن هؤلاء المستعمرون هم الجنس البشري الحقيقي الذي يجب أن يسود ويبقى.
وما نراه اليوم من عنجهية أمريكا وابنتها المدللة إسرائيل ، وما تمارسه هاتان الدولتان من صور القهر والخداع والتورية والتغطي بغطاء الخائف على الكون ، والراجي سلامته ، والمدافع عن حقوق البشر ومصالح العالمين ، والحارس الأمين للكون من أعداءه ، وما هم في حقيقة الأمر وبشهادة العقلاء منهم إلا قطاع طرق أرادوا أن يمارسوا وظيفتهم لكن بصورة جديدة وبثوب جديد ؛ فهم يلبسون ريش الحمام ، ويتزينون بزينة الكرام ، ويلبسون ثوب المظلوم المتمسكن ، ولكن كل تلك الصور الخارجية الجميلة تحمل أجساد وحوش مفترسة وشياطين متوحشة وأبالسة ملعونة ؛ همها الأول والوحيد السيطرة على البشر ، واتخاذهم خدما لمصالحهم الشخصية الضيقة ، وما نراه أيضا من ظلم بعض الساسة وأصحاب الأعمال في عالم تأليه الذات وحب السيطرة ، وفي عصر الغرق في بحار الجشع ؛ التي جعلت من الإنسان أداة لقهر غيره ، والعيش على جهده وتعبه.
في مقابل ذلك الكم الهائل من الضغط على الإنسانية واستعبادها بدأ بركانها يثور ، ولكن بصورة بشعة أيضا ، فصار الإنسان المسكين الذي لا يملك مقاومة الفريقين هو المستهدف ، ظهرت أشكالا اتخذت صورا عدة وادعت جميعا الهدف نفسه ، كحركات الانفصال والتمرد والمقاومة ، واتخذت حججا مختلفة دينية واشتراكية وعلمانية ، وحججا متنوعة كالدفاع عن الاعتقاد أو المبدأ أو الوطن أو الحرية أو مواجهة الطاغوت ، ودفعها كل ذلك إلى اتخاذ شتى الوسائل والإجراءات التي تستطيع أن تحقق بها غاياتها ؛ كانت تلك الوسائل مشروعة أم غير مشروعة ؛ فنتج الإرهاب من تلك الممارسات التي لم تميز بين المعتدي والبريء ، وزهق بسببها أرواحا بريئة ليس لها في هذه المعمعة صوت ولا سلاح.
إن هذا الصراع العجيب بين الطرفين أشعل جذوة النار ؛ لتصل إلى أعلى مستوياتها ، وظهر من يبرر العنف بحجة الدفاع عن النفس ، وشرع بعض من الطرفين قوانين همجية بحجة القضاء على الآخر ؛ لأنه في نظره سبب هلاك العالم ، ومما زاد الطين بلة اقتناع كثير من الناس بما تمارسه هذه الجماعات من أعمال ؛ لما تمارسه بعض الكيانات السياسية من أعمال همجية حيوانية ، لا تتصل بالإنسانية بصلة ؛ كممارسات أمريكا في العراق وسجن أبو غريب بالتحديد ، وما صنعته في سجن غوانتنامو من فضائع بحق البشرية ، وما تمارسه إسرائيل من مجازر في حق الفلسطينيين ، وما تمارسه بعض الكيانات السياسية من ظلم للإنسان واعتداء على حقه في الحرية وممارسة أشد أنواع القهر والظلم والتعذيب على رعاياها ؛ كل ذلك أدى إلى انهيار القيم الإنسانية ، وتبلد الحس الإنساني ، وابتكار أصناف من وسائل الدفاع لم تصب العدوين بأذى مثل ما أصابت من لا ناقة له ولا جمل في هذا السباق الملعون.
ما استخدمته أمريكا راعية الإرهاب اليوم من وسائل فتك وقتل وتدمير ، ومن أسلحة وقنابل محرمة دوليا بحجة القضاء على الإرهاب راح ضحيته الأبرياء ، وما قام به الإرهابيون بحجة الدفاع عن الحق المغتصب من تفجيرات وقتل ونهب في الأماكن العامة لم يصب إلا الأبرياء أيضا ؛ فأصبح العالم بين فكي وحش مفترس لم يراع دينا ولا ذمة ولا خلقا ولا إنسانية ، يتلذذ بطحن البشر كما تلذ الآلة في طحن الحم لإعداده لوجبة هامبرجر شهية ، وأمست صور القتل والتفجير وكأنها أحداث فلم خيالي تعرض فيه هذه المشاهد لإثارة الجمهور وجذبه فقط.
ما نحتاجه اليوم في عالم بوش وبلير ورابين وألمرت ، وفي عالم الطاغوت من الحكام الظلمة المتألهين ، وفي عالم التهور الممقوت ؛ أن نقف جميعا في وجهه هذه التيارات التي سخرت كثيرا من مواردنا التي وهبنا الله إياها لنعيش عيشة سعيدة ؛ لهلاك الحياة في سباق محموم للتسلح الذي أردى عالمنا في بحر من الدم والخراب والحقد والكراهية ، ولكن رغم بشاعة ما تمارسه بعض الكيانات على وجه الأرض من اعتداء غاشم إلا إنني لا أرى استخدام وسائلهم الطريقة الأمثل للقضاء عليهم ، بل بالدعوة إلى العودة إلى الفطرة الإنسانية إلى التعايش السلمي إلى قبول الآخر إلى الجلوس على طاولة النقاش ، ولا ندعو أحدا أن يتنازل عن مبادئه أو قيمه أو عقائده ، فله أن يعتقد ما شاء وإن ظن أن معتقده الحق فليعرضه كما يعرض التاجر سلعته ، وليجوده ويحسنه بالسلوك الحسن والخلق الفاضل ، وإرادة الخير للناس ، أما عرض البضاعة بالقوة فلن يثمر إلا حقدا وحربا وكراهية ، والحق أغر أبلج يراه رائيه من بعيد ؛ لا حاجة للإنسان أن يبتكر وسائل القوة والجبروت ؛ كي يقنع الناس بأنه الحق ، وخير دليل على ذلك فشل أمريكا والاتحاد السوفيتي قبلها في تسويق ما يؤمنان به بالقوة .... فهل من معتبر؟!