استلاب الذات (2)

من حق المؤسسات التجارية والإنتاجية حول العالم أن تتنافس في تكوين زبائن دائمين لمنتجاتها حتى تستطيع أن تستمر في مجال السباق الاقتصادي الحامي وخاصة في عصر الآلة ، ومن حقها أن تمارس سطوتها بكل الوسائل والطرق الممكنة من أجل إكساب ذوات البشر القدر الكافي من القناعات التي ربما في كثير من الأحيان خاطئة وليست صحيحة حول منتجاتها ؛ لتوفير الربح اللازم ولو على حساب الآخرين ، ولعبة الربح والخسارة ربما تبرر لأمثال هؤلاء استلاب الذوات وتذويبها فيما يدر عليها الربح ويبعد عنها شبح الخسارة والإفلاس.
ولكننا اليوم أمام ركن آخر من أركان استلاب الذات وتذويبها في أفكار ربما لا تليق مطلقا ببني البشر ، ذلك الركن هو المؤسسات السياسية الحاكمة والتي تحاول إخضاع الإنسان إلى سطوتها وقوانينها بدلا من حمايته وحماية حقوقه في امتلاك ذات حرة مستقلة ؛ فالإنسان من المفترض أن يكون صاحب إرادة مطلقة وعقل مستقل في اختيار الطريق التي يريد أن يسلكها في حياته وحتى الدين أكد على ذلك "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" ، وقد أكد ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقولته المشهورة لعمرو بن العاص: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" ، ولذا فإن الفطرة التي فطر الإنسان عليها هي الحرية التي تعد أفضل ما وهب الإنسان وكرم به.
كان من الواجب على أنظمة الحكم في كل مكان أن تضمن صيانة الذات من الاستلاب وأن توفر لها قدرا من الحماية يكفل لها التحرك في مساحة واسعة من الحرية ، لتضمن لها بعد ذلك قدرا من الإبداع الذي تتحرك به الحياة في كل مكان.
رغم أن الدور الذي يفترض أن تقوم به هذه المؤسسات هو المحافظة على الإنسان لكننا نجد ذلك الدور قد غاب عن ذهنها فأصبحت في هذا الزمان وأزعم في شتى أنحاء العالم تساعد وبشدة على محو الذات الإنسانية واستلابها والقضاء على مقومات الإبداع فيها إلا في الجوانب التي تخدم تلك المؤسسات وما ترنو له من أهداف وما تتطلع له من غايات.
لم يعد للشريحة العظمى من البشر أي رأي فيما تقوم به المؤسسات السياسية ولا فيما تتخذه من قرارات في نظري جرت على العالم ولايات من الحروب والدمار والتشتت والتشرذم والعداء بين بني البشر ، وكل من يحاول أن يتصدى لتلك السياسات التي تحاول إذابة الذات البشرية بجموعها في تلك الأفكار الرديئة الأنانية ، يعتبر عدوا للحقيقة وتلصق به التهم ويضيق عليه في حياته ويصور أمام الناس خائنا لوطنه وشعبه.
تمارس الأنظمة الحاكمة اليوم حول العالم سطوتها في تمرير أمور كثيرة في غالب الأحيان هي أمور لا تخدم إلا فئة صغيرة من البشر وعن طريق نفس الوسائل التي تتخذها المؤسسات الاقتصادية للترويج عن سلعها ، كان من المفروض على المؤسسات السياسية لا أقول أن تمنع وسائل الإعلام ولكن أقول أن تصنع إعلاما تحاول به أن تحد من استلاب الذات وإفقادها لحريتها ، ولكن العكس هو المتولد اليوم ؛ فوسائل الإعلام التي تخدم هذه المؤسسات تقوم بدور وللأسف الشديد أسوأ من الدور التي تقوم به وسائل الإعلام التجارية أو الداعمة للمؤسسات الإنتاجية ، فهذه الأخيرة لا تحاول أن تقنع أو تستأثر ببعض ما تملكه الذات البشرية بل تحاول أن تسلب الذات البشرية إرادتها كاملة لتنسجم تلك الذوات مع الإرادة السياسية للفئة الحاكمة وتخضع عن طريق غسيل المخ الذي يصور البشر في حالة من السقم العقلي بحيث لا يستطيعون التفكير ولا اتخاذ القرار الصحيح ، وبذلك عليهم الخضوع المطلق لأفكار الحاكمين الذين تفوق عقولهم عقول البشر جميعا.
في نظري أضحت المؤسسات الحاكمة حول العالم شركات كبيرة تحاول جذب الزبائن لمنتجاتها ، واستخدمت القوة التي تملكها عن طريق المذوبين ذاتيا والمسلوبين عقليا من العساكر الذين أغروا وبطرق شتى من أبرزها غسل العقول عن التفكير ؛ فسخر هؤلاء الذين هم جزء من الشعوب لحربها من أجل فئة من الناس ، استطاعت بلؤمها وخداعها وسيطرتها على موارد الحياة أن تتملك ذوات أولئك البشر وتستخدمهم في سحق نظرائهم.
تستغل المؤسسات الحاكمة اليوم مقدرتها على التشريع لتجعل من المال المحرك الرئيسي لهيمنتها على العالم ، فنجاحها في ربط البشر بالمال الذي جعلته يدور في دائرة مفرغة حين يقع في يد المواطن ليعود مرة أخرى إليها عن طريق الضرائب والرسوم أو صرف تلك المبالغ في المؤسسات الاقتصادية التي بشكل أو بآخر لها علاقة وطيدة بتلك الأنظمة.
هناك اليوم وعن طريق الأنظمة السياسية ثالوث يحاول أن ينتهك حرمة الذات الإنسانية ويقضي على إرادتها ويخدرها من أجل تحقيق المكاسب لذلك الثالوث الخانق الذي طوق العالم ؛ فالشركات ومالكيها من أصحاب رؤوس الأموال وأصحابهم من السياسيين ، ورفقائهم من الإعلاميين يمارسون اليوم جريمة عظمى في حق الذات الإنسانية ، وفعلا فقد طمست معالم الإنسانية في كثير من البشر فأضحوا مجرد آلات يحركها ثالوث الجشع ليصب جهودهم في خدمته.
وما نراه اليوم من محاولة إدماج العالم في فكر واحد ، وإلغاء لخصوصيات الشعوب وممارسة التهميش لعقائد الآخرين وأفكارهم من أجل السيطرة على عقول الآخرين والرغبة في امتلاكهم ، فعلى مستوى العالم تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة أوروبا بإدارة لعبة لتسويق حضارتها وأفكارها وعقائدها ، للهيمنة المطلقة على العالم ، مما ولد صراعات كثيرة حول العالم ، وأنشأ قوى في المقابل تحاول أن تتصدى وبقوة لتلك اللعبة ، مما قسم العالم في نظر أمريكا إلى قوى شر وقوى خير ؛ لأن قوى الشر هي التي حاولت أن تحافظ على ذاتها وتحفظ لنفسها استقلالها ولم تتماهى مع المشروع الرامي إلى تذويبها في مشروع الهيمنة الأمريكية على العالم.
وما يحزن حقا أن الأنظمة الحاكمة في الدول العربية تقوم أيضا بدور فاعل في استلاب ذوات مواطنيها وتسخيرهم لخدمة الساسة وأصحاب الطبقات العليا من الأغنياء وملاك المال وقد تحدثنا سالفا عن ذلك الدور الهزيل الذي تمارسه هذه الأنظمة ضد شعوبها ، محاولة أن تجعل الحياة محصورة في أفكار فئة محدودة وإلغاء دور الآخر إلا إذا كان يحوم حول حمى تلك الفئة.
في نظري إن الذات العربية ذات مسلوبة الإرادة بين أمرين: الأول انبهارها بالحضارة الغربية وسلوكها طريقا خطأ في الاقتداء بالغرب ، فلم تأخذ منه إلا الشكل أما المضامين الجيدة وهي لا شك أفضل فيها بكثير منا وإن كانت في كثير من الجوانب بحاجة إلى مراجعة ؛ لم يكن لغالب العرب من تلك المضامين نصيبا. والثاني: يتمحور في الجهود التي تبذلها الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية لسلب الإرادة الكامنة في نفس العربي لتجعله مجرد ناعق بأفكارها وتابع لقادتها دون وعي أو تفكير ، ومن يجرأ أن يستعمل ذاته لنقد أو معارضة لتلك الفئة استلمته أنظمة السلخ والتعذيب لإيقافه عند حده.
وحتى لا أكون جائرا في الحكم فإن لبعض الدول العربية تجارب رائدة في محاولة استرجاع ما للذات العربية من حقوق ولكنها تجارب صغيرة ومحدودة ولا زالت تحتاج إلى مزيد من التقنين والرعاية.

استلاب الذات(1)

لا يمكنني وأنا أتحدث عن الذات الإنسانية والذات العربية بشكل خاص في عصر العولمة أن أتغافل الدور الذي تلعبه القوى المهيمنة على العالم اليوم في إدارتها للعبة المهينة على الذات الإنسانية التي لم تعد في ظل عناصر اللعبة الجديدة قادرة على تحديد دورها المستقل الذي تستطيع أن تبدع من خلاله ما يميزها عن غيرها من الذوات أو أن تمنح نفسها استقلالية تبعث في النفس ارتياحا لكون الإنسان مازال حرا ومستقلا وقادرا على إعمال فكره بطريقة بعيدة عن التبعية التي وصلت إلى حد العبودية في أحيان كثيرة.
رغم ما نراه من المناشدة الحثيثة الملغومة بسياسات وتطلعات وأمان كاذبة في أغلبها -كما أدعي- المناشدة بحرية الإنسان وضمان استقلاليته واحترام إرادته إلا إننا نرى التجارب الواقعية في ذلك تتمحور حول استلاب الذات ومحاولة طمسها في خطط تضمن لأصحابها تبعية جميع الذوات لتلك الخطط اللئيمة والتي حولت الإنسان كائنا آليا مبرمجا على الاستجابة لتلك الخطط المريضة ، وعندما ترفض الذات الحرة تطبيق تلك البرامج ذات الطابع الفيروسي والتي تريد أن تقضي على الأسس الأصيلة التي برمج عليها الإنسان وفي مقدمتها الحرية التي وهبه الله إياها ؛ نرى أن تلك المؤسسات تحاول إلصاق التهم المختلفة بأولئك الذين رفضوا استلاب ذواتهم والإطاحة بإرادتهم لينفروا الناس من أفكارهم الحرة ، وليطمسوا معالم الاستقلال التي يسعون لها.
ليس غريبا على الشركات التي تحتاج إلى ربحية عالية ممارسة تلك اللعبة القذرة والتي تهيأت لها عن طريق استغلال وسائل الإعلام أو الإعلان بشكل أدق والتي جعلت من مسعاها الوحيد صناعة المكسب المادي دون النظر إلى القيم ذات الطابع الإنساني الأصيل في جعل الممارسة الإعلامية ممارسة شريفة هدفها الإصلاح ما استطاعت إلى ذلك سبيلا ؛ ليس غريبا عليها أن تحاول امتلاك عقول البشر وسلب ذواتهم بشتى الطرق والوسائل التي تساعدها على تحقيق تلك الربحية ، ومن هنا كان لتلك الشركات خططها الإعلانية المؤثرة على العقول مستغلة بعض ذوي الشهرة الذين على استعداد إلى تقديم ما يملكون من خبرات في مجال الفن الرخيص لتحقيق مآرب تلك الشركات وزرع الثقة العمياء في منتجاتها دون أن ينظروا إلى استحقاق تلك المنتجات وما يقدمونه للناس من طرح هل يتوافق ورسالة الفن التي يدعونها؟!
يمارس المشاهير اليوم جزءا كبيرا من الخيانة العظمى للذات البشرية ويشاركون بشكل مباشر في استلابها والقضاء على شخصيتها ، وفي الجانب الآخر يسمح البشر لأنفسهم تقبل ذلك دون وعي أو إدراك لخطورة تقبل تلك الأمور على أنها من المسلمات من أجل شهرة أصحابها ، لأن الترويج للبضائع تبعه الترويج لأفكار أخرى جرت على المؤمنين بها كوارث جمة.
تحدثنا مرارا عن الدور الذي يلعبه الإعلام في حياتنا وهو دور ليس بالهين كما يعتقده كثيرون ، دور جعل من رمم في حياتنا المعاصرة آلهة تعبد وجعل من أمور لا تقدم ولا تأخر شيئا في حياة البشر من المهمات العظام ، وأخل بكثير من القيم والثوابت الحسنة والتي لا يمكن الاستغناء عنها في أي عصر من العصور لتستقيم حياة الإنسان وأبدلها السيئ الرديء فاختلط الحابل بالنابل والجيد بالفاسد حتى أصبح ذي اللب في حيرة من أمره.
ما تطمح له الذات الإنسانية اليوم؟ سؤال لا بد أن يطرح ، وهل أضحى اهتمام الجيل القادم كما اهتمام الجيل السابق بالعلم والمعارف ؟ سؤال لا بد من تعاطيه ، وهل المستوى الخلقي والعلمي والثقافي الذي يمارسه الناشئة اليوم كما هو عليه في الجيل الماضي؟ لا... وللأسف لا... اسأل أصحاب الشأن في ذلك اسأل أرباب التربية والتعليم اسأل المعلمين الذين عاصروا أجيالا مختلفة اسأل الجيل السابق ستجد الجواب ماثلا أمامك ، اسأل الشباب عن اهتماماتهم ستجد الجواب صاعقا ، وإذا أردت فلا تسأل وراقب من بعيد ومن يعش رجبا يجد عجبا.
ولعل بعض المتفلسفين الجدد سيصمني بالتخلف والرجعية والنظرة القديمة البالية ، ولكن لن آبه لذلك وسأتركه في سباته العميق حتى يجرفه التيار ويشعر بالماء الجارف تحت قدمه يلين الأرض من تحتها ليلقيه في هيجانه الذي لا يرحم.
جميع من تكلمه من البشر يؤكد لك أن الجيل الجديد جيل الإعلام الهزيل جيل التقليد جيل الذات المسلوبة المفتقرة إلى أبسط أدوات الذات المستقلة ، جيل لا يجيد سوى أن يسير على خطى الآخرين ويصنع ما يصنعه المشاهير الذين أجادوا لعبة تمزيق الذات الإنسانية واستلابها واستطاعوا أن يرسموا له معالم حياته التي تهتم بالتوافه وتقليد التقاليع التي يظهر عليها أولئك المشاهير ، وكم من شاب فقد حياته والإحصائيات تملأ الأرفف بسبب ذلك التقليد.
ما تقوم به وسائل الإعلام الحديثة من دور تربوي -إن صح التعبير- أفقد المؤسسات الأخرى ذات الأهمية القصوى في تنشئة الجيل وأقصد بذلك المؤسسات التربوية التقليدية في مقابل الطفرة الكبيرة لوسائل الإعلام وسهولة الوصول إليها والمتع التي تقدمها ألبست المؤسسات التربوية الحقيقية مثل المدارس والجامعات لباسا أضحى ثقيلا على مرتاديها ؛ لأن الأولى لا تطلب سوى مجرد الجمود أمامها ومتابعة ما تعرضه دون حراك أو مشاركة ، أما الثانية فإنها تحمل المنتسب إليها عبأ المتابعة والتفاعل الإيجابي والذي يبني ذات الناشئة ويرسم لها خطى الاستقلالية والإبداع ، وإن كانت هذه المؤسسات وخاصة في دولنا العربية غير قادرة على بناء ذات قوية تستطيع أن تبدع بشكل فاعل في الحياة.
إننا أمام مشكلة لا بد من التنبه لها وبشكل يضمن لنا وضع النقاط على الحروف أو بمعنى آخر وضع العلاج المناسب لها ، وإذا ما لم تتخذ المجتمعات خطوات جادة في ذلك فإننا سنجد الجيل القادم جيلا لن يستطيع مواجهة الحياة بالصورة التي تتطلبها تعقيداتها الناتجة عن أشكال التكنولوجيا الحديثة ، ولن نجد من المبدعين من يستطيع أن يبتكر ما ينفع البشرية أو يجدد حياتها ولن نرى إلا جيلا هزيلا ينظر من خلال عيون الآخرين ويفكر بعقولهم.
وعندها تصبح اللعبة في يد المسيطرين على العالم والذين همهم توجيه أنظار الناس إلى مخططاتهم الرأسمالية والاستفادة قدر المستطاع من السقم الذي أصاب كثيرا من الذوات التي أضحت مسلوبة الإرادة الإنسانية التي توجهها دائما إلى الاستقلالية والابتكار.