صناعة الكراهية

أزمة الإنسانية في زمن متحجر
الحب هو طعم الحياة الذي لم يتذوقه كثير من الناس إلا زائفا من خلال بعض الممارسات الشهوانية التي يتقاسمها بنو آدم مع غيرهم من الكائنات ، وفي اعتقادي أن انسلاخ الإنسان من إنسانيته ، وتحجره كالآلة الصماء هو الذي أورثه هذا التبلد الحسي الذي نراه في كثير من مجتمعاتنا ومجتمعات العالم التي نتشارك معها الإنسانية ، والتي لا شك في أنها مركب من عنصرين هامين: الجسد والروح ؛ وعلى هذين العنصرين أن يتساوقا في مسيرة الإنسان الحياتية بتساو واعتدال ، وما أن تطغى واحدة على أخرى إلا وانحرف الإنسان عن تلك الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
مع ما للروح من أهمية عرفانية دينية ، لكنها دون الجسد لا تساوي شيئا ، فالاهتمام بالروح دون الموازنة مع متطلبات الجسد ؛ سيجرف بالإنسان إلى هاوية التطرف والرهبانية الممقوتة عرفا وشرعا وفطرة ، وكذلك الأمر في الجسد ؛ فالاهتمام به مع إغفال دور الروح في تقويم مساره وضبط حركته ؛ يؤدي بالإنسان إلى البعد عن إنسانيته التي تميزه عن سائر الكائنات إلى أن ينحط أحيانا إلى درك الحيوانات أو أشد ، فينجرف في سيل من متطلبات الجسد التي لا تنتهي عند فتح الباب لها ؛ لأن الجسد دون الروح آلة صماء لا تمل من طلب المزيد من الوقود لتقوية عملها ، فمن دون ذلك الزيت لن تستطيع أن تحترق لتولد الطاقة اللازمة لحياتها ، ومن هنا يصبح الإنسان منساقا لإشباع رغباته وتنويعها بحثا عن السعادة دون جدوى ؛ إذ عنصر السعادة لا يكمن في إشباع رغبات الجسد بمقدار ما يكمن في راحة الروح وطمأنينة النفس ؛ وعليه فإنه يجب على الإنسان أن يوازن في حياته بين متطلبات الجسد والروح ؛ بتلمس احتياجات كل واحدة منها وإشباعها ؛ ليبقى التوازن والوسطية ما يقود الإنسان في حياته ، وبغير ذلك لا بد أن يجنح الإنسان إلى الشر.
ما نراه اليوم عند كثير من الناس من المبالغة في الانغماس في الشهوات والملذات وأنواع المتع الجسدية التي وصلت في بعض الأحيان إلى ارتكاب أفظع الجرائم التي لا يصدقها عقل إنسان ، حتى قرأت مرة أن بعض المجرمين في أمريكا وصل إلى أكل لحم ضحيته ؛ لأنه لم يعد يتمتع بالمتع الجسدية الأخرى لكثرة ما تعاطاها ؛ حسب إحصائياتهم.
وما نراه عند آخرين من التطرف الشديد الذي أوصلهم إلى درجة النظر في الأشياء بنظرة سوداوية قاتمة ، فلا يرى خيرا في شيء أبدا ، ويتوقع الشر يحيط به من كل جانب ؛ حتى افتعل حجة الدفاع عن النفس ، فأخذ أيضا كما فعل الآخر بالاعتداء على الآخرين وقتلهم وتدمير مجتمعاتهم دون مبرر إلا توقع الشر والظن السيئ ، والمبالغة في عزل النفس عن عالمها الجسدي ، وعدم الموازنة في تعاطي الأمور وتغليب جانب على جانب.
استطاع الإنسان بالعقل الذي منحه الله إياه أن يكتشف ويخترع ويصنع من وسائل التكنولوجيا والآلات الحديثة ما وفر سبلا من السعادة والراحة لو استغلها الاستغلال الأمثل لعاش الناس جميعا في رفاهية وسعادة وغنى.
إلا إن الإنسان بدلا أن يسخر هذه الآلات لخدمته وخدمة إخوانه من بني البشر أنتج العكس ؛ فتأثر بالآلة بدلا من أن يؤثر فيها ؛ وأنتج إنسان الآلة الذي يسير وفق قوانينها الإنتاجية التنافسية ؛ ففقد الإحساس والشعور ، وأصبح متحجرا كالآلة التي صنعها ومن هنا بدأت قصة الكراهية وصناعة الموت.
لما وجد أناس هذا الانحياز لمتع الجسد والتخلي عن الجانب الروحاني في الإنسان أرادوا أن يواجهوا هذا المد الهائل من التيبس الروحي ، وما نتج عنه من ظلم للبشرية بسبب الجشع الذي مارسه أصحاب رؤوس الأموال على بني البشر رغبة في الربح السريع وجمع الثروات والحصول على المراكز ، فقاموا بالدعوة إلى التركيز على الروح ، ومحاولة التضحية بأنفسهم في سبيل إنقاذ البشرية من الظلم الناتج عن تعاطي الشهوات والاستغراق في الملذات ؛ فاتخذوا المواجهة مع المد المستعر من المادية بتطرف آخر أفقد رسالتهم سموها ، ودفع بالآخر إلى مواجهتهم بعنجهيته المادية البحتة ، وهاجمهم هجوم المستميت ؛ الذي رأى في نشر الفضائل وقيم المساواة والعدل ضياعا لفرصة السيادة والسيطرة التي يبحث عنها ، وفواتا في الغنى الذي ملأ عليه عقله وكيانه ، فلم يشعر بغيره ، ولم يأبه إلا بنفسه في سبيل أن يتملك ما يستطيع تملكه في هذه الحياة ، وشعاره الذي يرفعه أنا وغيري في الجحيم.
هذا الجشع المادي مع اختيار الطريق المتطرف في معالجة الأمر في المقابل ؛ هو الذي جرنا اليوم لمثل هذه الكوارث ، وهذه الأزمة التي نواجهها لا يمكن علاجها إلا بالعودة إلى الأصل والاعتراف بالآخر أيا كان جنسه أو لونه أو بلده ؛ كشريك في هذه الحياة ، وشريك حيوي بالتعاون والتعايش معه والرضا به ونبذ التمييز بين بني البشر ؛ نستطيع أن نحقق الأمن المطلوب لمن يعيش في هذه الأرض.
إن ما نراه من تنافس استعماري على مر العصور ومحاولة استغلال طائفة من البشر لخدمة آخرين ، وتقسيم الناس إلى سادة وعبيد ، وما مارسه الغرب من استعباد الناس إبان الثورة الصناعية عندهم ؛ إلا دليل على ذلك الجشع والظلم الذي مارسه أصحاب رؤوس الأموال لتنميتها على حساب سحق الفقراء والضعفاء وأكل ثمرة جهودهم المضنية دون اعتبارهم من البشر أصلا.
وما نراه بالأمس القريب من صور الاستعمار البربري الذي مارسته الدول الغربية على الدول العربية وغيرها ، وما صنعته في هذه الدول من جرائم ؛ هي عار على البشرية ، وصورة من صور التحول الإنساني إلى الوحشية التي لا يمتلكها أشد المفترسين فتكا في شريعة الغاب ، أبادوا وقتلوا ونهبوا ، ثم واجهوا المقاومة من أجل التحرير بازدراء وسخرية وقهر ؛ وكأن هؤلاء الناس ليس لهم حق في الحياة أو هم عنصر زائد يجب اجتثاثه من فوق الأرض ، وكأن هؤلاء المستعمرون هم الجنس البشري الحقيقي الذي يجب أن يسود ويبقى.
وما نراه اليوم من عنجهية أمريكا وابنتها المدللة إسرائيل ، وما تمارسه هاتان الدولتان من صور القهر والخداع والتورية والتغطي بغطاء الخائف على الكون ، والراجي سلامته ، والمدافع عن حقوق البشر ومصالح العالمين ، والحارس الأمين للكون من أعداءه ، وما هم في حقيقة الأمر وبشهادة العقلاء منهم إلا قطاع طرق أرادوا أن يمارسوا وظيفتهم لكن بصورة جديدة وبثوب جديد ؛ فهم يلبسون ريش الحمام ، ويتزينون بزينة الكرام ، ويلبسون ثوب المظلوم المتمسكن ، ولكن كل تلك الصور الخارجية الجميلة تحمل أجساد وحوش مفترسة وشياطين متوحشة وأبالسة ملعونة ؛ همها الأول والوحيد السيطرة على البشر ، واتخاذهم خدما لمصالحهم الشخصية الضيقة ، وما نراه أيضا من ظلم بعض الساسة وأصحاب الأعمال في عالم تأليه الذات وحب السيطرة ، وفي عصر الغرق في بحار الجشع ؛ التي جعلت من الإنسان أداة لقهر غيره ، والعيش على جهده وتعبه.
في مقابل ذلك الكم الهائل من الضغط على الإنسانية واستعبادها بدأ بركانها يثور ، ولكن بصورة بشعة أيضا ، فصار الإنسان المسكين الذي لا يملك مقاومة الفريقين هو المستهدف ، ظهرت أشكالا اتخذت صورا عدة وادعت جميعا الهدف نفسه ، كحركات الانفصال والتمرد والمقاومة ، واتخذت حججا مختلفة دينية واشتراكية وعلمانية ، وحججا متنوعة كالدفاع عن الاعتقاد أو المبدأ أو الوطن أو الحرية أو مواجهة الطاغوت ، ودفعها كل ذلك إلى اتخاذ شتى الوسائل والإجراءات التي تستطيع أن تحقق بها غاياتها ؛ كانت تلك الوسائل مشروعة أم غير مشروعة ؛ فنتج الإرهاب من تلك الممارسات التي لم تميز بين المعتدي والبريء ، وزهق بسببها أرواحا بريئة ليس لها في هذه المعمعة صوت ولا سلاح.
إن هذا الصراع العجيب بين الطرفين أشعل جذوة النار ؛ لتصل إلى أعلى مستوياتها ، وظهر من يبرر العنف بحجة الدفاع عن النفس ، وشرع بعض من الطرفين قوانين همجية بحجة القضاء على الآخر ؛ لأنه في نظره سبب هلاك العالم ، ومما زاد الطين بلة اقتناع كثير من الناس بما تمارسه هذه الجماعات من أعمال ؛ لما تمارسه بعض الكيانات السياسية من أعمال همجية حيوانية ، لا تتصل بالإنسانية بصلة ؛ كممارسات أمريكا في العراق وسجن أبو غريب بالتحديد ، وما صنعته في سجن غوانتنامو من فضائع بحق البشرية ، وما تمارسه إسرائيل من مجازر في حق الفلسطينيين ، وما تمارسه بعض الكيانات السياسية من ظلم للإنسان واعتداء على حقه في الحرية وممارسة أشد أنواع القهر والظلم والتعذيب على رعاياها ؛ كل ذلك أدى إلى انهيار القيم الإنسانية ، وتبلد الحس الإنساني ، وابتكار أصناف من وسائل الدفاع لم تصب العدوين بأذى مثل ما أصابت من لا ناقة له ولا جمل في هذا السباق الملعون.
ما استخدمته أمريكا راعية الإرهاب اليوم من وسائل فتك وقتل وتدمير ، ومن أسلحة وقنابل محرمة دوليا بحجة القضاء على الإرهاب راح ضحيته الأبرياء ، وما قام به الإرهابيون بحجة الدفاع عن الحق المغتصب من تفجيرات وقتل ونهب في الأماكن العامة لم يصب إلا الأبرياء أيضا ؛ فأصبح العالم بين فكي وحش مفترس لم يراع دينا ولا ذمة ولا خلقا ولا إنسانية ، يتلذذ بطحن البشر كما تلذ الآلة في طحن الحم لإعداده لوجبة هامبرجر شهية ، وأمست صور القتل والتفجير وكأنها أحداث فلم خيالي تعرض فيه هذه المشاهد لإثارة الجمهور وجذبه فقط.
ما نحتاجه اليوم في عالم بوش وبلير ورابين وألمرت ، وفي عالم الطاغوت من الحكام الظلمة المتألهين ، وفي عالم التهور الممقوت ؛ أن نقف جميعا في وجهه هذه التيارات التي سخرت كثيرا من مواردنا التي وهبنا الله إياها لنعيش عيشة سعيدة ؛ لهلاك الحياة في سباق محموم للتسلح الذي أردى عالمنا في بحر من الدم والخراب والحقد والكراهية ، ولكن رغم بشاعة ما تمارسه بعض الكيانات على وجه الأرض من اعتداء غاشم إلا إنني لا أرى استخدام وسائلهم الطريقة الأمثل للقضاء عليهم ، بل بالدعوة إلى العودة إلى الفطرة الإنسانية إلى التعايش السلمي إلى قبول الآخر إلى الجلوس على طاولة النقاش ، ولا ندعو أحدا أن يتنازل عن مبادئه أو قيمه أو عقائده ، فله أن يعتقد ما شاء وإن ظن أن معتقده الحق فليعرضه كما يعرض التاجر سلعته ، وليجوده ويحسنه بالسلوك الحسن والخلق الفاضل ، وإرادة الخير للناس ، أما عرض البضاعة بالقوة فلن يثمر إلا حقدا وحربا وكراهية ، والحق أغر أبلج يراه رائيه من بعيد ؛ لا حاجة للإنسان أن يبتكر وسائل القوة والجبروت ؛ كي يقنع الناس بأنه الحق ، وخير دليل على ذلك فشل أمريكا والاتحاد السوفيتي قبلها في تسويق ما يؤمنان به بالقوة .... فهل من معتبر؟!