استلاب الذات(1)

لا يمكنني وأنا أتحدث عن الذات الإنسانية والذات العربية بشكل خاص في عصر العولمة أن أتغافل الدور الذي تلعبه القوى المهيمنة على العالم اليوم في إدارتها للعبة المهينة على الذات الإنسانية التي لم تعد في ظل عناصر اللعبة الجديدة قادرة على تحديد دورها المستقل الذي تستطيع أن تبدع من خلاله ما يميزها عن غيرها من الذوات أو أن تمنح نفسها استقلالية تبعث في النفس ارتياحا لكون الإنسان مازال حرا ومستقلا وقادرا على إعمال فكره بطريقة بعيدة عن التبعية التي وصلت إلى حد العبودية في أحيان كثيرة.
رغم ما نراه من المناشدة الحثيثة الملغومة بسياسات وتطلعات وأمان كاذبة في أغلبها -كما أدعي- المناشدة بحرية الإنسان وضمان استقلاليته واحترام إرادته إلا إننا نرى التجارب الواقعية في ذلك تتمحور حول استلاب الذات ومحاولة طمسها في خطط تضمن لأصحابها تبعية جميع الذوات لتلك الخطط اللئيمة والتي حولت الإنسان كائنا آليا مبرمجا على الاستجابة لتلك الخطط المريضة ، وعندما ترفض الذات الحرة تطبيق تلك البرامج ذات الطابع الفيروسي والتي تريد أن تقضي على الأسس الأصيلة التي برمج عليها الإنسان وفي مقدمتها الحرية التي وهبه الله إياها ؛ نرى أن تلك المؤسسات تحاول إلصاق التهم المختلفة بأولئك الذين رفضوا استلاب ذواتهم والإطاحة بإرادتهم لينفروا الناس من أفكارهم الحرة ، وليطمسوا معالم الاستقلال التي يسعون لها.
ليس غريبا على الشركات التي تحتاج إلى ربحية عالية ممارسة تلك اللعبة القذرة والتي تهيأت لها عن طريق استغلال وسائل الإعلام أو الإعلان بشكل أدق والتي جعلت من مسعاها الوحيد صناعة المكسب المادي دون النظر إلى القيم ذات الطابع الإنساني الأصيل في جعل الممارسة الإعلامية ممارسة شريفة هدفها الإصلاح ما استطاعت إلى ذلك سبيلا ؛ ليس غريبا عليها أن تحاول امتلاك عقول البشر وسلب ذواتهم بشتى الطرق والوسائل التي تساعدها على تحقيق تلك الربحية ، ومن هنا كان لتلك الشركات خططها الإعلانية المؤثرة على العقول مستغلة بعض ذوي الشهرة الذين على استعداد إلى تقديم ما يملكون من خبرات في مجال الفن الرخيص لتحقيق مآرب تلك الشركات وزرع الثقة العمياء في منتجاتها دون أن ينظروا إلى استحقاق تلك المنتجات وما يقدمونه للناس من طرح هل يتوافق ورسالة الفن التي يدعونها؟!
يمارس المشاهير اليوم جزءا كبيرا من الخيانة العظمى للذات البشرية ويشاركون بشكل مباشر في استلابها والقضاء على شخصيتها ، وفي الجانب الآخر يسمح البشر لأنفسهم تقبل ذلك دون وعي أو إدراك لخطورة تقبل تلك الأمور على أنها من المسلمات من أجل شهرة أصحابها ، لأن الترويج للبضائع تبعه الترويج لأفكار أخرى جرت على المؤمنين بها كوارث جمة.
تحدثنا مرارا عن الدور الذي يلعبه الإعلام في حياتنا وهو دور ليس بالهين كما يعتقده كثيرون ، دور جعل من رمم في حياتنا المعاصرة آلهة تعبد وجعل من أمور لا تقدم ولا تأخر شيئا في حياة البشر من المهمات العظام ، وأخل بكثير من القيم والثوابت الحسنة والتي لا يمكن الاستغناء عنها في أي عصر من العصور لتستقيم حياة الإنسان وأبدلها السيئ الرديء فاختلط الحابل بالنابل والجيد بالفاسد حتى أصبح ذي اللب في حيرة من أمره.
ما تطمح له الذات الإنسانية اليوم؟ سؤال لا بد أن يطرح ، وهل أضحى اهتمام الجيل القادم كما اهتمام الجيل السابق بالعلم والمعارف ؟ سؤال لا بد من تعاطيه ، وهل المستوى الخلقي والعلمي والثقافي الذي يمارسه الناشئة اليوم كما هو عليه في الجيل الماضي؟ لا... وللأسف لا... اسأل أصحاب الشأن في ذلك اسأل أرباب التربية والتعليم اسأل المعلمين الذين عاصروا أجيالا مختلفة اسأل الجيل السابق ستجد الجواب ماثلا أمامك ، اسأل الشباب عن اهتماماتهم ستجد الجواب صاعقا ، وإذا أردت فلا تسأل وراقب من بعيد ومن يعش رجبا يجد عجبا.
ولعل بعض المتفلسفين الجدد سيصمني بالتخلف والرجعية والنظرة القديمة البالية ، ولكن لن آبه لذلك وسأتركه في سباته العميق حتى يجرفه التيار ويشعر بالماء الجارف تحت قدمه يلين الأرض من تحتها ليلقيه في هيجانه الذي لا يرحم.
جميع من تكلمه من البشر يؤكد لك أن الجيل الجديد جيل الإعلام الهزيل جيل التقليد جيل الذات المسلوبة المفتقرة إلى أبسط أدوات الذات المستقلة ، جيل لا يجيد سوى أن يسير على خطى الآخرين ويصنع ما يصنعه المشاهير الذين أجادوا لعبة تمزيق الذات الإنسانية واستلابها واستطاعوا أن يرسموا له معالم حياته التي تهتم بالتوافه وتقليد التقاليع التي يظهر عليها أولئك المشاهير ، وكم من شاب فقد حياته والإحصائيات تملأ الأرفف بسبب ذلك التقليد.
ما تقوم به وسائل الإعلام الحديثة من دور تربوي -إن صح التعبير- أفقد المؤسسات الأخرى ذات الأهمية القصوى في تنشئة الجيل وأقصد بذلك المؤسسات التربوية التقليدية في مقابل الطفرة الكبيرة لوسائل الإعلام وسهولة الوصول إليها والمتع التي تقدمها ألبست المؤسسات التربوية الحقيقية مثل المدارس والجامعات لباسا أضحى ثقيلا على مرتاديها ؛ لأن الأولى لا تطلب سوى مجرد الجمود أمامها ومتابعة ما تعرضه دون حراك أو مشاركة ، أما الثانية فإنها تحمل المنتسب إليها عبأ المتابعة والتفاعل الإيجابي والذي يبني ذات الناشئة ويرسم لها خطى الاستقلالية والإبداع ، وإن كانت هذه المؤسسات وخاصة في دولنا العربية غير قادرة على بناء ذات قوية تستطيع أن تبدع بشكل فاعل في الحياة.
إننا أمام مشكلة لا بد من التنبه لها وبشكل يضمن لنا وضع النقاط على الحروف أو بمعنى آخر وضع العلاج المناسب لها ، وإذا ما لم تتخذ المجتمعات خطوات جادة في ذلك فإننا سنجد الجيل القادم جيلا لن يستطيع مواجهة الحياة بالصورة التي تتطلبها تعقيداتها الناتجة عن أشكال التكنولوجيا الحديثة ، ولن نجد من المبدعين من يستطيع أن يبتكر ما ينفع البشرية أو يجدد حياتها ولن نرى إلا جيلا هزيلا ينظر من خلال عيون الآخرين ويفكر بعقولهم.
وعندها تصبح اللعبة في يد المسيطرين على العالم والذين همهم توجيه أنظار الناس إلى مخططاتهم الرأسمالية والاستفادة قدر المستطاع من السقم الذي أصاب كثيرا من الذوات التي أضحت مسلوبة الإرادة الإنسانية التي توجهها دائما إلى الاستقلالية والابتكار.